Thursday, November 17, 2011

جدارية سجن أبو سليم

جدارية سجن أبو سليم

عاشور الطويب



قال لي شبيهي وهو معي في زنزانتي: أنت لست سوى حنجرة صارخة في البري.

صاح صوت واهن من آخر عنبر السجن: المغني هرم يا محمد الأمين1 وهرمنا معه ....لكننا نشهد تخليص البلاد من قبضة الطاغية. واجهني الجدار جملة صامتة. هذه صحراؤهم و صحراؤنا. بخطوط مستقيمة ومنحنية تصير بلادا و عباد. اقفلْ باب الزنزانة عليّ لا يهم، مفتاحها هاهنا بين أصابعي فحم أسود و حلم نافر. اقفلْ باب الزنزانة عليّ لا يهم، هواء بلادي لي و دحرجة الوقتِ بين دخول الصباح و رنين القوقعة لي. همس صوتٌ من أوّل عنبر السجنِ: يهزُّ الملكُ أوتارَ كمانه، العينان مقفلتان، يحلمُ بولائم الدم. يشدّني شجنٌ لصوتِ طفلي في مصراتة2. أحضنُ في القلب ضحكتَه المضمَّخة برائحة النعناع.

جالسٌ، ظلِّي رمادي وقلبي أبيض كالثلج. هناك، هناك على ربوة عالية صوتٌ عذبٌ.

يشدّني الشجنُ إلى ارجوحة أمي في مصراتة. احضنُ في القلب نَفَسَها المضمّخ بالقرنفل والزعتر البرّي.



"في الليل أيضا ينام الغبار"

قال شبيهي النائمُ بجانبي في ابوسليم3 في عنبر لستُ أذكرُ منه إلا رائحةَ الألم.

"فُلْكُ الراحلين على حَرْف البحر دهشةٌ و قلقْ، فأيّ الجياد سيعدو نحو شطآن السكونْ؟"

قلتُ والمساءُ البغيضُ لا يريد أن ينته: كنتُ أعلمُ أنَّ الحمَام سيجيء ذات صباح ويحطّ على نافذة زنزانتي العالية، سيحمل لي في منقاره الصغير نتفة من سحابة و على ظهره قطرة مطر. هذا الحزنُ كأنّي أعرفه! أبكي كلّما أراه...انني أبكي الآن.

حنجرةٌ تصيحُ: وطني يغيب أين؟ و سهمُ الكفِّ ممدودٌ في الفضاء بلا قصيدة.

من ذا يَقدِرُ أن يأخذَ حنجرةَ التاريخ؟.



خاطَبَهم رئيسُ السجن: أنتم في أسوء سجن على ظهر الكرة الأرضية. نحن نتعامل مع ثلاث أشياء فقط: 1- ثلاجة الموتى. 2- الكلاب المفترسة. 3- البحر كاتم الأسرار.

لم يسمعوا شيئا. كانت الحرب على أشدها.

أمامي سحبٌ بحجم الوطن... أيها ستمطر! ضباب كثيف! أحاول الرؤية من قريب.

الهواءُ لا يثبتُ على كلامٍ واحد. من أعلى يتساقط حَبُُّ الزمان، من أعلى يشيخُ المساء
وتتأرجحُ الطمأنينة على أعواد الكذب.

من تحت ماسورةالمدفع الطويلة لمِحَ نجمةً تقتربْ.

- مرّ على كتفه بندقية
-أين ؟
-في آخر الطريق.

قال شبيهي:

كلُّ عودٍ فيه ما فيه وكلُّ بلادٍ لها ساحةٌ للبكاءْ.

قلت: قدمٌ واحدة تبحث عن عتبة باب، يدٌ تعلّق في الهواء رمّانة فارغة.
اضْربْ طبولكَ واحْسبْ ميزانَ شهواتك بفتور اللحظةالهامشية.



"قد أكون بارعا في مراقبة النجوم في عتمة الليل" قال دون أن يلتفت إليهم, الذين حملهم النوم في مركبته الذهبية. لم تكن السماء المتلألأة بارعة في اخفاء ضحكتها, ولا الثعلب الصغير بارعا في الاقتراب, غير أنّ الكثيب كان يحلم بطوابير النمل الأسود تعبر فلوات الشتاء. "هيهات" قال وهو يرفع من على عينيه سحب الحزن الحامض، هيهات هيهات.



كم هشَّةٌ وقفةُ الرجل يفحصُ نسيجَ الحزن بيدين ترتعشان كم حادّةٌ ظلمة النهار و كم خائنة عيون القاتل. مُدَّ رأسك من البريقة4 إلى رأس لانوف5، لا تخف من ضيق الطريق، فقد تشتهي امرأة أو حنظلة مدورة ملساء قد تقطف دون أن تدري وردة القلب.



حلمتُ البارحة بعريشة بيتنا.لم أذق أطعم من عنب عريشة بيتنا. لم يكن بيني وبين أمي غير سحب بيضاء عابرة. رفعت عينيها، نادتني: محمد سيفتح الجبّ بابه وستطير في المدى الشاسع أحلامك فاغلق عينيك عند الفجر وادخل مدينتك العالية. سألتني: هل فتحت في جدارك كوّة، تمدّ المدينة منها يدها وتضع الحناء على أصابع الجموع النائمة معك؟

يا محمد ان طالت غيبتك فلأمر! ليس في يدي غير الغبار، ليس في العين غير البكاء، ليس في البرية غير الالم. فلتنتظر فجرا يطوي الأرض طيا ويشرب معك عصير البرتقال قبل أن يقوم الصباح من مكانه.

يا محمد، سأذهب الآن لأزرع ورودا حمراء في زنازين الميتين. سلام لك إلى قيام الساعة.

صرختُ عاليا: سلمي لي على أبي، قولي له لا يبكي عليّ، سأعود....سأعود.

على عريشة عنب بيتنا نامت الحناجر المتعبة....صمتا رجاء لا جلبة ولا ضوضاء.



قُربَ عشّ طائر الدوري وضعتُ لافتة بيتي ورأيتُ في السماء وجه أخي الحبيب.

سقطت من شجر قريب أصواتُ أنين. ليتني أقدرُ تقبيل عينيه، ليتني أجمع آهاته عنه، ليتني ....

"من أين يأت الظل؟" سأل سجاّنٌ "من أين ولا شمس تجلس في الزنزانة أو تلامس الجذار؟" قال ثانية.

سجدوا جميعا، سجدوا على ذراع ميّت. كانوا بعين واحدة. عين بلا حزن.



من يحمل حزني معي؟ من يحمل سجني معي؟ غابة من رجال، غابة من نساء و أطفال، غابة من عويل وضحك متقطع، غابة من أنفاس عطرة، غابة من شهيق وغابة من زفير، غابة من ظلال باردة، وغابة من رمل يابس ساخن، غابة من رياح و غبار، غابة من صهيل خيول برية، وغابة، غابة من عيون زوجتي البهية.

"ماذا في آخر الأخبار" يسأل سجانا سجينُ؟

-لا جديد في الحرب، لقد انتصرنا وستقتلون.

غابة من نواح وشجن. هل نامت القبرات في نافذة زنزانتي؟ لعلها صارت غابة من ريش وريح. إني متعب يا بلاد القناديل المطفأة6.



ما أوسع باب سجنك و ما اضيق صدرك. كيف استطعتَ قتل الزمن على عتبة زنزانتي؟ كيف مسحت بماء النار جبين عابري بّوابتك الصدئة؟ قلتَ لنا ستأكلكم أنيابُ النسيان.

قلتَ لنا ستعلّقون من خصّيكم على باب المدينة الشرقي. قلتَ لنا .....

-و لكن ما الفائدة....ستموتون على كل حال.



في غفلة عنك و عن حرّاسك، رفعتُ مئذنتي على كتفيّ. هيأتُ للأحباب وليمة و وتركتُ البحر على وسادتي كي يستريح. لو كنتَ تعلم أن الوادي قد صاحتْ عصافيرُه حين التفتُّ إلى آخر نهار ودخلتُ قبوكَ. في غفلة عنك و عن حّراسك، بارَكني الأنبياء. قد يضيق المكانُ على القادمين! قد يجيء المساءُ بلا ظلمة! قد يخون الجسدُ المدمّى! لكن سيعيش الوطن هنا أبدا،

سيعيش الوطن هنا أبدا، هنا أبدا.



ها قد جاءت الطيور إلى ميعاد الماء والطاعنون في السنّ يخيطون أفواه حكايات الحرب بحنكة بالغة.

مركبي عريُ الندى، جاءت به النباتات و الدعوات القديمة. الأذرع العالية بحري، موجه أشواق و زفرات خافتة. هلمّ إلي تقول الهتافات من وراء الجبل. هلمّ إليّ تقول الأناشيد من مصراتة.



كم خفيفة هي الحرية! و كم عظيم هو الانسان. ياه! ما أثقل العقود الأربعة الماضية.



شاعر ليبي، طرابلس

--------------------------​--------------------------​--------------------------​------------------------
هوامش:

محمد بن الأمين: رسام ليبي شاب سجن هو و أخوه الحبيب بن الأمين في الأسبوع الأول من ثورة 17 فبراير ضد القذافي وسجنا في سجن أبوسليم الشهير بطرابلس.

أفرج عنه الثوار يوم 20.8.2011 بعد تحرير طرابلس.

مصراتة : المدينة التي يقيم فيها الرسام وقد عانت دمارا كبيرا على يد كتائب القذافي لكنها انتصرت عليه.

أبوسليم: سجن رهيب مقتل فيه عام 1996 في ساعتين 1269 سجين سياسي وإلى حد الآن غير معروف أين دفنوا.

منطقة نفطية في شرق ليبيا

منطقة نفطية في شرق ليبيا

عنوان قصيدة لشاعر ليبي اسمه علي الرقيعي مات عام 1966
.

This poem by Libyan poet Ashur Twebi is posted on Misrata artist Mohammad Bin Lamin's Facebook album of his remarkable cell drawings and other prison art produced during his imprisonment in Abu Salim jail - from the start of the revolution until the liberation of that terrible place on 20 August 2011.

No comments: